د. ناصر بن علي الجهوري
dr.nasser.aljahwari@gmail.com
في حياة الإنسان محطاتٌ يخطئ فيها أو يُصيب، يسقط أو ينهض، يُغريه البريق أو يردّه الضمير. غير أن ثمة أشياء إن انكسرت، فلا جابر لها، ولا دواء يعيدها إلى بكارتها الأولى. أربعة أشياء تتصدّر قائمة السمات الإنسانية، هي: المبادئ، والثقة، والوعود، والقلوب.
أولها المبادئ، فهي الجذور الراسخة في تربة الضمير، التي تُملي على الإنسان اتجاهه، وتُحدد صوته الداخلي في ساعة الفتنة. المبادئ أشبه بنجم قطبيّ يهدي السائر في ليلٍ معتم؛ من فقده ضلّ، ومن تبعه اهتدى. وإذا كُسرت المبادئ، انكسر معها ميزان العدل، وسقطت مهابة الحق، وذابت الفواصل بين النور والظلام. قال الإمام علي رضي الله عنه: "لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله" (نهج البلاغة، الحكمة 201). فمن صان مبدأه، صان الله مقامه، ومن باعه بمنفعة زائلة، فقد باع نفسه بثمن بخس.
وثانيها الثقة، وهي الجسر الممتد بين الأرواح، والعملة التي لا تُزيف. لا تُشترى الثقة بمال، ولا تُفرض بقوة، بل تُكتسب بالصدق والوفاء. ومتى انكسرت، أصبحت شظاياها أعتى من الزجاج، تجرح كل محاولة لترميمها. إن هدم بيتٍ أسهل من هدم الثقة، وبناء جبلٍ أهون من بنائها بعد سقوط. قال الله تعالى في كتابه الحكيم: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ۚ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [ النحل: 91].
وثالثها الوعود، فالوعد كلمة، لكنه في ميزان الأخلاق أثقل من جبل، وأرفع من تاج. الوعد إذا أُخلف، تهاوى البناء الذي شُيّد من رجاءٍ وصبر. وقد أمر الله بالوفاء بقوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً﴾. [الإسراء: 34]. فالوفاء وعدٌ على الكرامة، والغدر موت للأمانة.
ورابعها القلوب، وهي أرقّ ما في الوجود، وأغلى ما يملك الإنسان. القلب إن جُبر بعد انكسار، يبقى على سطحه أثر الشرخ، كما يبقى الأثر في زجاجٍ انكسر. جرح القلوب لا يُداويه إلا صدق العاطفة، وعدل المعاملة، وصفاء النية. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" (صحيح البخاري، رقم 52). فرفقًا بالقلوب؛ فهي بيوت الحب والحنان، ومواضع النقاء والإيمان. ومن كسر قلبًا عامرًا بالود، فقد كسر جوهر إنسان.
هذه الأربعة هي أعمدة إنسانيتنا. إذا حُفظت، عاش المرء كريمًا في عيون الناس، مطمئنًا في سريرته، صادقًا مع ذاته. وإذا هُدمت، صار مثل سفينة بلا شراع، تتقاذفها أمواج الهوى والخذلان.
هذه الأربعة ليست مجرد قيم منفصلة، بل هي مظلة تحتها تتجمع سائر مكارم الأخلاق والخصال الإنسانية. فالمبادئ تُغذي الضمير، والثقة ثمرة الصدق والأمانة، والوعود انعكاس للشرف والوفاء، والقلوب مرآة الإيمان والرحمة. وإذا صان المرء هذه الأربعة، حفظ معها كل ما عداها من خصال؛ فلا ينهار ضمير، ولا تُخدش كرامة، ولا تضيع سمعة، ولا تُهدر إنسانية.
فالمبادئ حصن الكرامة، والثقة درع العلاقات، والوعود قوام المروءة، والقلوب جواهر الوجود. ومن أراد حياةً عزيزة، فليجعل هذه الأربعة خطوطًا حمراء، لا يقترب منها خذلان، ولا يمسّها زيف، ولا ينال منها ضعف. وليكن شعارنا: لا نكسر مبدأ، ولا نخون ثقة، ولا نُخلف وعدًا، ولا نجرح قلبًا.